لن يكون إرث نتنياهو أمنًا، بل عزلةً

نشر في الجزيرة بتاريخ ٢١/٦/٢٠٢٦ ووكالة وطن للأنباء بتاريخ ٢٣/٦/٢٠٢٥

سعيه للهيمنة لم يجعل “إسرائيل” أكثر أمانًا، بل زادها ازدراءً وعزلةً على الساحة العالمية.

ترجمة وطن: 

منذ تأسيسها عام ١٩٤٨، سعى رؤساء وزراء “إسرائيل” إلى ترك إرثٍ يدوم طويلًا – بعضهم بالحرب، وبعضهم بالدبلوماسية، وبعضهم بأخطاء تاريخية فادحة. ضمن ديفيد بن غوريون الذي أسس “الدولة” وبنى مؤسساتها التأسيسية. ترأست غولدا مائير حربًا كلفتْها منصبها. وقّع مناحيم بيغن سلامًا مع مصر بينما كان يوسع المستوطنات غير الشرعية. اغتيل إسحاق رابين لمحاولته صنع السلام مع الفلسطينيين.

كل قائد، بطريقة ما، ترك بصماته. لكن لم يحكم أيٌّ منهم طويلًا – أو مثيرًا للانقسام – مثل بنيامين نتنياهو. والآن، أكثر من أي وقت مضى، لا يقتصر السؤال على نوع الإرث الذي يريد تركه، بل على الإرث الذي يُنشئه بالفعل.

في عام ٢٠١٦، جادلتُ بأن العالم العربي قد توج نتنياهو فعليًا “ملكًا للشرق الأوسط” – وهو لقب يعكس نجاحه في ترسيخ مكانة “إسرائيل” كقوة إقليمية دون تقديم أي تنازلات للفلسطينيين. واليوم، أعتقد أنه يرى فرصة ليس فقط لترسيخ هذا اللقب، بل لإعادة تشكيل مكانة “إسرائيل” الإقليمية بشكل دائم – من خلال القوة والإفلات من العقاب، واستراتيجية متجذرة في الهيمنة الأمنية.

منذ ولايته الأولى، أصرّ نتنياهو على أن أمن “إسرائيل” يجب أن يفوق كل الاعتبارات الأخرى. من وجهة نظره، لا تتعارض الدولة الفلسطينية مع أمن “إسرائيل” فحسب، بل تُشكل تهديدًا وجوديًا. وحتى لو أُنشئت دولة كهذه، فقد أوضح نتنياهو أن على “إسرائيل” الاحتفاظ بما يُسميه “السيادة الأمنية” على كامل فلسطين التاريخية.


لم يكن هذا مجرد كلام. لقد شكّل كل قرار رئيسي اتخذه، ولا سيما الحرب الحالية على غزة. لقد دمّر هذا الهجوم أحياءً بأكملها، وأودى بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وشرّد معظم سكانها البالغ عددهم مليوني نسمة، وخلّف كارثة إنسانية غير مسبوقة.

تُتّهم “إسرائيل” من قِبَل جماعات حقوق الإنسان ووكالات الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي وإبادة جماعية. وتواجه اتهامات بالإبادة الجماعية، مدعومة من قِبَل دول متعددة، في محكمة العدل الدولية. كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات إدانة بحق نتنياهو ووزير جيشه السابق، يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك استخدام التجويع كسلاح حرب.

ومع ذلك، يُصرّ نتنياهو على موقفه، مُجادلاً بأن غزة يجب ألا تُشكّل تهديداً لـ”إسرائيل” مجدداً، وأن تدميرها ضروري لتأمين مستقبل البلاد.

لا يقتصر هذا المنطق على غزة فحسب. فقد استخدم حججاً مماثلة لتبرير هجمات “إسرائيل” على لبنان، بما في ذلك ضربات مُستهدفة لشخصيات من حزب الله ومحاولة اغتيال زعيم الحزب، حسن نصر الله.

باستخدام نفس المنطق، شنّت “إسرائيل” أيضاً ضربات في اليمن، مُوضحةً أنها ستتدخل في العراق كلما وحيثما دعت الحاجة.

كما استُخدمت الحجة الأمنية لتبرير استمرار احتلال الأراضي السورية، وتُوظّف حالياً لإضفاء الشرعية على الهجمات المُستمرة على إيران، بدعوى منعها من امتلاك أسلحة نووية، ولإضعاف قدراتها الصاروخية والطائرات المُسيّرة.

في كل حالة، تُكرّر الرواية نفسها: لا يُمكن لـ”إسرائيل” أن تكون آمنة إلا إذا قُسِّم أعداؤها، وبقي ردعها دون مُنازع، وهيمنتها دون مُنازع. كل معارضة أو خلاف أو مقاومة – سواء أكانت عسكرية أم سياسية أم حتى رمزية – تُصوَّر كتهديد يجب القضاء عليه.

وتتبع جهود نتنياهو الدبلوماسية هذا المنطق. فقد أُشيد باتفاقيات إبراهيم، التي وُقِّعت مع الإمارات والبحرين والمغرب خلال فترة رئاسته للوزراء، باعتبارها اتفاقيات سلام، لكنها كانت في المقام الأول أدواتٍ للتوافق الإقليمي الذي همّش الفلسطينيين. بالنسبة لنتنياهو، التطبيع ليس طريقًا للسلام – بل هو وسيلةٌ لترسيخ موقف “إسرائيل” مع تجنب حلٍّ عادلٍ للاحتلال.

ما هو الإرث الذي يسعى نتنياهو إليه إذن؟

يريد أن يُذكر كرئيس وزراء سحق كل مقاومةٍ للاحتلال، وأنهى نهائيًا فكرة الدولة الفلسطينية، وكرّس هيمنة “إسرائيل” في الشرق الأوسط بالقوة المُطلقة. في رؤيته، تسيطر “إسرائيل” على الأرض، وتُملي القواعد، ولا تُحاسب أحدًا.

لكن التاريخ قد يذكره بشكل مختلف.

ما يسميه نتنياهو “أمنًا”، يراه العالم بشكل متزايد عنفًا منهجيًا. يشير رد الفعل العالمي على الحرب على غزة – مظاهرات الملايين، والإجراءات القانونية الدولية، والمقاطعات المتزايدة، وتخفيضات المستوى الدبلوماسي – إلى أن “إسرائيل” تحت قيادته لا تكتسب الشرعية، بل تفقدها.

حتى بين حلفائها، تواجه “إسرائيل” عزلة متزايدة. فبينما تواصل الولايات المتحدة توفير الغطاء الدبلوماسي، لم تعد مصطلحات مثل “الفصل العنصري” و”التطهير العرقي” و”الاستعمار الاستيطاني” مقتصرة على النشاط الهامشي، بل إنها تدخل الخطاب السياسي السائد وتُشكل الوعي العام، لا سيما بين الأجيال الشابة.

يجادل العديد من المعلقين بأن نتنياهو يتمسك بالسلطة لمجرد تجنب الملاحقة القضائية بتهمة الفساد أو المساءلة عن إخفاقات هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على “إسرائيل”. لكنني أعتقد أن هذا التحليل يغفل حقيقة أعمق: أنه يرى هذه اللحظة – هذه الحرب، وغياب المساءلة – كفرصة تاريخية. في رأيه، هذا عملٌ إرثي.

المأساة أنه في سعيه وراء هذا الإرث، قد يحقق عكس ما يقصد. ليس إسرائيل أقوى، بل “إسرائيل” أكثر عزلة. ليس وطنًا آمنًا، بل دولة يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها منتهكة للأعراف الدولية. ليس إرث قوة، بل إرث انهيار أخلاقي وسياسي.

سيُخلّد نتنياهو في الذاكرة. اليوم، بينما تحترق غزة وتواجه إيران ضربة تلو الأخرى، لم يعد هناك شك في ذلك. السؤال الوحيد هو: هل سيكون إرثه إرثًا للأمن القومي، أم إرثًا يترك “إسرائيل” أكثر عزلة، وأكثر إدانة، وأكثر هشاشة من أي وقت مضى؟

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

• كامل حواش

أكاديمي وكاتب وناشط حقوقي فلسطيني بريطاني، وعضو مؤسس في الحملة الوطنية لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.

Leave a comment